نريد دولة!
الاستثمار في الصمت
ليس بين رُّبَّان البحر وقُرْصانه إلا الوجهة التي يوجه كل منهما سفينته نحوها. فالذي يقودها حيث يريد الركاب، يسمى رُبَّانا، أو قُبطانا. والذي يقودها حيث يريد هو، يسمى قُرصانا.
تنطبق هذه القاعدة، وبدقة عجيبة، على الأنظمة التي تقود مجتمعاتها وتُسيِّر دولها. وتنطبق أيضا على أولئك الذين كلَّفوا أنفسهم أو كلفهم المجتمع، ولو ضمنيا، بالسياسة.
لذلك، سيكون من الطبيعي لمن لا يرغبون في معرفة ما يفكر به القراصنة أن يبدأوا البحث عن قبطان. وهذا بالضبط ما نريده. أما ما نراه، وحالُ موريتانيا هذه، فهو أننا مدعوون لاتخاذ واحد من قرارين:
فإما أن ننخرط في جهد جماعي مستنير يهدف إلى إحداث تغيير جذري في نظام الحكم السائد والأساليب العمومية المدمرة؛
أو ننتظر حتى نجد أنفسنا جزءا من مشروعات أنانية وفوضى مطلقة تؤول حتما إلى اندثارنا. وليست المسألة، فيما يبدو، إلا مسألة وقت.
لم يبق بعد أمَارات الإدبار المتتالية إلا الشرارَة. وشرارةُ الهدم، كما علَّمنا التاريخ قديمُه وحديثُه، لا تُشترط فيها العظمة؛ بل كانت في حالات كثيرة أتفه مما يخطر لأحد على بال. وإنما يختلف الصمود في وجه ذلك كله باختلاف مستوى التحصين المسبق والجاهزية والتماسك. فهل نحن جاهزون؟
هل لدينا بنية مؤسسية محصّنة، أو قيادات جاهزة؟ هل فينا قوى حية متماسكة، أو رأسمال وطني واع ومسؤول، أو قِيَم سياسية راسخة، أو مرجعيات يُهتدى بها في ظلمات التيه والتخبط؟
ماذا تقول في أجيال من النخب والشباب قد وقفت وقفة رجل واحد لتُشبِّك سواعدها وتنتظر مصيرا توقن هي في قرارة نفسها أنه مظلم؟
نوشك اليوم أن نطوي صفحة من تاريخ الدولة الموريتانية، ومأموريةً الإنجازاتُ فيها تقاس بقَدْر التعهدات والمجاملات، وعددِ مَن تم إسكاتهم من ساسة ومدوِّنين.
ونوشك، إثر ذلك، على تنظيم انتخابات رئاسية هي، في حقيقتها وسياقاتها الداخلية والخارجية، بمثابة استفتاء على مصير بلد. ولا تكاد رغم ذلك كله، تَلْمَحُ برقا في سماء موريتانيا أو تسمع رعدا.
لا تكاد ترى اليوم في ساحتنا العمومية هذه إلا أرواحا تتمايل على إيقاع من الجمود المثقل بأغلال اليأس والتكميم… أرواحا تبحث عمَّا تغفو في ظلاله فلا تجد غير نظام يتربع على عرش من الفساد والإهمال والتزوير، وأرض بَوَارٍ تشكو البؤس والحرمان وخيبات الأمل.
قد لا يُستغرب هذا الجمود والتراخي على سلطة تستثمر في الصمت، أو في التَّرْك كما يقول الأصوليون. لكن المستغرَب هنا هو عدم إفراز الساحة، حتى الآن، لما يناسب المقام ويتماشى مع الظرف. فما هو السر؟ وأيُّ مبرر ذلك؟
أحمد بن هارون