نريد دولة!
عدوى العدمية
لم يكتشف المجتمع الموريتاني، لحد الساعة، إلا وسيلة واحدة للتغيير ما لبث أن خاب أمله فيها، وهي الانقلابات العسكرية. ثم تلت ذلك ثلاثون سنة من الديمقراطية الفاسدة والانتخابات الزائفة، فلم تكن خيبة الأمل فيها أهون.
وها هي خمس سنوات تتقضي على أول عملية استخلاف يسلم فيها الضابط الأسمى رئاسة البلد للذي يليه، وما زاد ذلك الموريتانيين إلا خيبة وحيرة. فما عساهم يفعلون؟ أليست هذه عدمية غامرة يتعين على رجال السياسة أن ينظُروا في مرتكزاتها وخلفياتها وعلاجاتها؟
يبدو جليا أنْ لا أحد اليوم يسلَم من عدوى العدميّة. تلك الروح العمومية التي رسَّختها التجارب الفاشلة، وفاقَمَها الأسلوب السلطوي والنخبوي الجديد.
وقد فرضت عليَّ كلمة العدمية هذه نفسها حين بدا لي، بعد نداءات عديدة ومبادرات وجولات، أن السياق العامّ أصيب بجلطة قلبية تُنذره بالإعاقة المزمنة أو الشلل.
وماذا تقول في سياق لا يبادر ولا يرحب بالمبادرة؟ وحدها المغامرات الفردية مرحَّبٌ بها اليوم، والتطبيلُ يتفهَّمه الجميع، وكذلك الخمولُ والاستقالةُ والهجرة.
ليس غريبا، في ظل نظام عمودي كنظامنا، أن تؤثر السلطة تأثيرا بالغا على الإيقاع السياسي. ومن أسوإ مظاهر ذلك التأثير أن تُنَصِّب نفسها وكيلا للعدمية واليأس، وتعيق السياق العام عن قدرته الطبيعية على إنتاج المبادرة والترحيب بها.
وقد كان لاستثمار النظام الحالي في الصمت والإسكات وعزوفِه عن اتخاذ قرارات كبرى يعارَض على أساسها أو يؤيَّد الأثَّر البالغ على الساحة والفاعلين العموميين. لقد فعل بهم فعل المخدر في الأعصاب.
وللتذكير، كنتُ من الذين انتقدوا هذا النظام – أوَّلَ الأمر – على أساس ميوعةٍ لا تخطئها العين ولا يمكن معها تسيير بلد مأزوم. ثم عارضتُه على أساس ضِيقٍ في الأفق وتوجُّسٍ من التغيير وانحيازٍ للفساد. وذلك قبل أن تبدو عدميته للجميع.
والمشكل أن عدمية القمة ليست كعَدمية القاعدة. فالأخيرة مقصورة في تأثيرها على السياسية وتوازناتها وحركتها، بينما تؤول عدمية القمة، مع الوقت، إلى غياب الدولة وتراجعٍ في المرونة الاجتماعية. وعندئذ تكون السلطة نفسها عبئا على الجميع ونذيرا من نُذُر اندثاره، بدل أن تكون رافعته الأساسية والضمان الأوحد لبقائه.
إن من أعظم الأخطاء التي دأبت عليها عامة الأحكام الموريتانية المتعاقبة، تعامُلها السلبي مع كل قوة ينتجها المجتمع، فردية كانت أو جماعية، إما بتحطيمها مباشرة، أو وضع العراقيل أمامها، أو بضمِّها إلى القطيع وجوقات التهريج. والنتيجة النهائية معروفة، وهي ألا تجد الدولة حالَ ضعفها مجتمعا له من القوة والشعور بالذات ما يسندها به.
وليس الحل، على كل حال، في مأمورية أخرى على ذات النهج، وبحكامة انتخابية تسمح لكبار موظفين الدولة أن يحملوا العصيّ يهددون بها الناخب والمنتخَب والوسيط. إنهم خارج الزمن!
هذا عن السلطة والنظام. أما المعارضة، فإنها قد تكون أشد الأطراف تأثرا بالعدوى والإعياء العامّ وبمفعول الجلطة. ومع علمنا جميعا بأنها لم تحترس يوما من النظام والعدوى التي بشَّر بها، إلا أن سلامتها بقيت حلما لدينا جميعا وفرَضِيَّة مما جعلنا لا نحترس منها. ولا ندري اليوم هل أُصِبنا نحن أم أننا سالمون؟
أحمد بن هارون